تفسير سورة الغاشية
{بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ}.
البسملة تقدم الكلام عليها. {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} يجوز أن يكون الخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحده وأمته تبعًا له، ويجوز أن يكون عامًا لكل من يتأتى خطابه، والاستفهام هنا للتشويق فهو كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10]. ويجوز أن يكون للتعظيم لعظم هذا الحديث عن الغاشية. {حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} أي نبأها، و{الْغَاشِيَةِ} هي الداهية العظيمة التي تغشى الناس، وهي يوم القيامة التي تحدث الله عنها في القرآن كثيرًا، ووصفها بأوصاف عظيمة مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ الله شَدِيدٌ} [الحج: 1، 2].
ثم قسم الله سبحانه وتعالى الناس في هذا اليوم إلى قسمين فقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} {خَاشِعَةٌ} أي ذليلة كما قال الله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45]. فمعنى خاشعة يعني ذليلة.
{عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} عاملة عملًا يكون به النصب وهو التعب. قال العلماء: وذلك أنهم يكلفون يوم القيامة بجر السلاسل والأغلال، والخوض في نار جهنم، كما يخوض الرجل في الوحل، فهي عاملة تعبة من العمل الذي تكلف به يوم القيامة؛ لأنه عمل عذاب وعقاب، وليس المعنى كما قال بعضهم أن المراد بها: الكفار الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وذلك لأن الله قيد هذا بقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} أي يومئذ تأتي الغاشية، وهذا لا يكون إلا يوم القيامة. إذن فهي عاملة ناصبة بما تكلف به من جر السلاسل والأغلال، والخوض في نار جهنم أعاذنا الله منها.
{تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} أي تدخل في نار جهنم، والنار الحامية التي بلغت من حموها أنها فضلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزءًا، يعني نار الدنيا كلها بما فيها من أشد ما يكون من حرارة نار جهنم أشد منها بتسعة وستين جزءًا، ويدلك على شدة حرارتها أن هذه الشمس حرارتها تصل إلينا مع بعد ما بيننا وبينها، ومع أنها تنفذ من خلال أجواء باردة غاية البرودة وتصل لنا هذه الحرارة التي تدرك ولاسيما في أيام الصيف، فالنار نار حامية، ولما بين مكانهم، وأنهم في نار جهنم الحامية، بين طعامهم وشرابهم فقال: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ} {تُسْقَى} أي هذه الوجوه {مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} أي شديدة الحرارة، هذا بالنسبة لشرابهم، ومع هذا لا يأتي هذا الشراب بكل سهولة، أو كلما عطشوا سقوا، وإنما يأتي كلما اشتد عطشهم واستغاثوا كما قال تعالى: {وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ} [الكهف: 29]. هذا الماء إذا قرب من وجوههم شواها وتساقط لحمها، وإذا دخل في أجوافهم قطعها، يقول عز وجل: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} [محمد: 15]. إذن لا يستفيدون منه لا ظاهرًا ولا باطنًا، لا ظاهرًا بالبرودة ببرد الوجوه، ولا باطنًا بالري، ولكنهم - والعياذ بالله - يغاثون بهذا الماء ولهذا قال: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ}. فإذا قال قائل: كيف تكون هذه العين في نار جهنم والعادة أن الماء يطفىء النار؟ فالجواب: أولًا: أن أمور الاخرة لا تقاس بأمور الدنيا، لو أنها قيست بأمور الدنيا ما استطعنا أن نتصور كيف يكون، أليس الشمس تدنو يوم القيامة من رؤوس الناس على قدر ميل، والميل إما ميل المكحلة وهو نصف الإصبع أو ميل المسافة كيلو وثلث أو نحو ذلك، وحتى لو كان كذلك فإنه لو كانت الاخرة كالدنيا لشوت الناس شيًّا، لكن الاخرة لا تقاس بالدنيا. أيضًا يحشر الناس يوم القيامة في مكان واحد، منهم من هو في ظلمة شديدة، ومنهم من هو في نور {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم: 8]. يحشرون في مكان واحد ويعرقون منهم من يصل العرق إلى كعبه، ومنهم من يصل إلى ركبتيته، ومنهم من يصل إلى حِقويه، ومع ذلك هم في مكان واحد. إذن أحوال الاخرة لا يجوز أن تقاس بأحوال الدنيا. ثانيًا: أن الله على كل شيء قدير. ها نحن الان نجد أن الشجر الأخضر توقد منه النار كما قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 80]. الشجر الأخضر رَطِب، ومع ذلك إذا ضرب بعضه ببعض، أو ضرب بالزند انقدح خرج منه نار حارة يابسة، وهو رطب بارد، فالله على كل شيء قدير، فهم يسقون من عين آنية في النار ولا يتنافى ذلك مع قدرة الله عز وجل.
أما طعامهم فقال: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ} الضريع قالوا: إنه شجر ذو شوك عظيم إذا يبس لا يرعاه ولا البهائم، وإن كان أخضر رعته الإبل ويسمى عندنا الشبرق. فهم - والعياذ بالله - في نار جهنم ليس لهم طعام إلا من هذا الضريع، ولكن لا تظن أن الضريع الذي في نار جهنم كالضريع الذي في الدنيا فهو يختلف عنه اختلافًا عظيمًا، ولهذا قال: {لا يُسْمِنُ} فلا ينفع الأبدان في ظاهرها {وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ} فلا ينفعها في باطنها فهو لا خير فيه ليس فيه إلا الشوك، والتجرع العظيم، والمرارة، والرائحة المنتنة التي لا يستفيدون منها شيئًا.
Последний раз редактировалось: UmmFatima (Чт 19 Ноя 2015, 07:02), всего редактировалось 2 раз(а)